فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

وقوله سبحانه: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} الآية، النداءُ: هو الأذانُ، وكان على الجِدَارِ في مسجدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي مصنف أبي داودَ: كَانَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو عَلى المنبر أذَانُ، ثم زادَ عثمانُ النداءَ عَلَى الزوراء ليسمعَ الناسُ.
وفي البخاريّ والترمذيِّ وصححه عن السائبِ بن يزيد قال: كَانَ النداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلُه إذا جَلَسَ الإمام على المنبر؛ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ، فلما تَوَلَّى عثمانُ وكثرَ الناسُ، زَادَ الأذَانَ الثالثَ فأَذَّنَ به على الزَّورَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ على ذلك، قِيل: فقوله (الثالثَ) يَقْتَضِي أنَّهمُ كَانُوا ثلاثةً، وفي طريقٍ آخرَ (الثاني) بدَلَ (الثالث) وهو يَقْتَضِي أَنَّهُمَا اثنانِ، انتهى، وخرَّجَ مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنِ غْتَسَلَ، ثمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فصلى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثم أَنْصَتَ لِلإمَامِ حتى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وَفَضَلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» انتهى، وخرَّجَهُ البخاريُّ من طريقِ سُلَيْمَان.
وقوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} قال ابن هشام: (من) مرادفةِ (في)، انتهى.
وقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله...} الآية، السعِيُ في الآيةِ لاَ يُرَادُ به الإسْرَاعُ في المشي، وإنما هو بمعنى قوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] فالسَّعْيُ هو بالنِّيةِ والإرَادَةِ والعَمَلِ؛ مِنْ وُضُوءٍ، وغُسْلٍ، وَمَشْيٍ، ولُبْسِ ثوبٍ؛ كُلُّ ذلكَ سَعْيٌ، وَقَدْ قال مالكٌ وغيره: إنما تُؤْتَى الصلاةُ بالسَّكِينَةِ: وهو نصُّ الحديث الصحيحِ، وهُوَ قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: «فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ»،: والظاهرُ أنَّ المرادَ بالسعيِ هُنا المُضِيُّ إلى الجمعةِ، كما فسَّره الثعلبيُّ، ويدلُّ على ذلكَ إطلاقُ العلماءِ لفظَ الوجوبِ عَلَيْهِ، فيقولونَ السَّعْيُ إلَى الجمعةِ واجبٌ، ويدلُّ عَلَى ذلك قراءة عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وابن عمر وابنِ عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين: {فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال ابن مسعود: لَوْ قرأتُ: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} لأَسْرَعْتُ حَتَّى يَقَع رِدَائي، وقال العِرَاقِيُّ: {فاسعوا} معناه بَادِروا، انتهى، وقوله: {إلى ذِكْرِ الله} هو وعظُ الخطبةِ؛ قاله ابن المسيب، ويؤيدُه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذَا كَانَ يومُ الجمعةِ، كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فالأَوَّلَ، فَإذَا جَلَسَ الإمَامُ طَوُوُا الصُّحُفَ، وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» الحديث خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلم، واللفظُ لمسلمٍ، والخُطْبَةُ عِنْدَ الجمهورِ شَرْطٌ في انعقادِ الجمعةِ.
وعن أبي موسى الأشعري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:
«إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَبْعَثُ الأيَّامَ يومَ القيامةِ على هَيْئَتِهَا، وَيْبَعَثُ الجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا مُحِفُّونَ بِهَا؛ كالْعَرُوسِ تهدى إلَى كرِيمَها، تُضِيءُ لهم؛ يَمْشُونَ في ضَوْئِهَا؛ أَلْوَانُهُمْ كالثَّلْجِ بَيَاضًا، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ في جِبَالِ الكَافُورِ، يَنْظُرُ إلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ، مَا يَطْرِفُونَ تَعَجُّبًا، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لاَ يُخَالِطُهُمْ إلاَّ المُؤَذِّنُونَ المُحْتَسِبُونَ» خَرَّجَهُ القاضِي الشريفُ أبو الحسنِ علي بن عبد اللَّهِ بن إبراهيمَ الهاشميّ، قال صاحبُ (التذكرة): وإسنادهُ صحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: {ذلكم} إشارةٌ إلى السعي وتَرْكِ البَيْعِ.
وقوله: {فانتشروا} أجمعَ الناسُ على أنَّ مُقْتَضَى هذا الأمْرِ الإباحةُ، وكذلك قوله: «وابتَغُوا من فضل اللَّه» أنَّه الإبَاحَة في طلب المعاش، مثلَ قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2] إلا مَا رُوِيَ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذلكَ الفضْلُ المُبْتَغى هو عيادةُ مريضٍ، أو صِلَةُ صديقٍ، أو اتِّباعُ جنازةٍ»، قال: وفي هذا ينبغي أنْ يكونَ المرءُ بقيةَ يومِ الجمعةِ، ونحوه عن جعفر بن محمد، وقال مكحول: الفضلُ المبْتَغَى: العلمُ فينبغي أن يُطْلَبَ إثْرَ الجمعةِ.
وقوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيرًا...} الآية، قال معاذ بن جبل: مَا شَيْءٌ أنجى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ: رواه الترمذي واللفظُ له، وابنُ ماجَه، والحاكمُ في (المستدرك)؛ وقال صحيحُ الإسناد، انتهى من (السلاح).
وقوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا...} الآية، نزلتْ بسبب أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ قائِمًا على المنبرِ يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ، فأقبلت عِيرٌ مِنَ الشَامِ تحملُ مِيرةً، وصاحبُ أمْرِهَا دِحْيَةُ بن خليفةَ الكلبي، قال مجاهد: وكانَ مِن عُرْفِهِمْ أن تَدْخُلَ عِيرُ المدينةِ بالطَّبْلِ والمعازفِ، والصياحِ سرورًا بها، فدخلتْ العيرُ بمثلِ ذلكَ، فانْفَضَّ أهْلُ المسجدِ إلى رؤيةِ ذلكَ وسماعِه؛ وتركُوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا عَلَى المنبرِ، ولم يَبْقَ معه غَيْر اثنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، قال جابر بن عبد اللَّه: أنا أحَدُهُم، قال: ولم تَمُرَّ بِي تَسْمِيتُهم في ديوانٍ فيما أذْكُرُ الآنَ، إلا أنِّي سمعتُ أبي رحمه اللَّه يقول: همُ العشرةُ المشهودُ لهم بالجنةِ، واخْتُلِفَ في الحادِيَ عَشَرَ، فقيل: عمارُ بن ياسر، وقيل: ابن مسعودٍ،: وفي تقييد أبي الحسنِ الصغير: والاثْنَا عَشَر الباقون همُ الصحابةُ العَشَرَةُ، والحادِيَ عَشَرَ: بلالٌ، واخْتُلِفَ في الثاني عشر، فَقِيل: عمار بن ياسرِ، وقيل: ابن مسعود، انتهى، قال السهيلي: وجَاءَتْ تسميةُ الاثْنَي عَشَرَ في حديث مُرْسَلٍ رواه أسد بن عمرو والدُ موسى بن أسد، وفيه أنَّ: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ معه إلا أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ؛ حتى العشرةِ، وقال: وبلالٌ وابن مسعود، وفي روايةٍ: عمارُ بَدلَ ابنِ مسعودٍ، وفي (مَرَاسِيلِ أبي داودَ) ذكر السببَ الذي من أجله تَرَخَّصُوا، فقال: إن الخطبةَ يوم الجمعةِ كَانَتْ بعدَ الصلاةِ فَتَأَوَّلُوا رضي اللَّه عنهم أنهم قَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ، فَحوِّلَتْ الخطبةُ بعدَ ذلك قبلَ الصلاةِ، فهذا الحديث وإن كانَ مُرْسَلًا فالظن الجميلُ بأصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ أنْ يكونَ صحيحًا، واللَّه أعلم؛ انتهى، ورُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
«لَوْلاَ هؤلاءِ لَقَدْ كَانَتِ الحِجَارَةُ سُوِّمَتْ على المُنَفضِّينَ من السماءِ»، وفي حديث آخر: «والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ تَتَابَعْتُمْ حتى لاَ يبقى أَحَدٌ لسَالَ بِكُمُ الوَادِي نَارًا»، قال البخاريُّ: {انفضوا} معناه تَفَرَّقُوا، انتهى، وقرأ ابن مسعود: {وَمِنَ التِّجَارَةِ لِلَّذِينَ اتقوا وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وإنما أعاد الضميرَ في قوله: {إِلَيْهَا} على التجارةِ وَحْدَهَا لأنَّهَا أهَمُّ، وهي كَانَتْ سَبَبَ اللَّهوِ، * ص *: وقرئ {إلَيْهِمَا} بالتثنيةِ. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} أي فُعِلَ النداءُ لهَا أيْ أُذِّنَ لَهَا {مِن يَوْمِ الجمعة} بيانٌ لإذَا وتفسيرٌ لهَا وقيلَ من بمَعْنَى في كَما في قولهِ تعالى: {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} أيْ في الأرضِ وإنَّما سمِّي جمعةً لاجتماعِ الناسِ فيهِ للصلاةِ وقيلَ أولُ مَنْ سمَّاها جمعةً كعبُ بنُ لُؤَي وكانتِ العربُ تسميهِ العَرُوبَةَ وقيلَ إنَّ الأنصارَ قالوا قبلَ الهجرةِ لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيهِ بكُلِّ سبعةِ أيامٍ وللنَّصارَى مثلُ ذلكَ فهلمُّوا نجعلْ لَنَا يومًا نجتمعُ فيهِ فنذكرُ الله فيهِ ونُصلِّي فقالوا يومُ السبتِ لليهودِ ويومُ الأحدِ للنَّصارَى فاجعلُوه يومَ العَروبَةِ فاجتمعُوا إلى سعدِ بنِ زُرارةَ فصلَّى بهمْ ركعتَينِ وذكَّرَهُم فسمَّوه يومَ الجمعةِ لاجتماعِهِم فيهِ فأنزلَ الله آيةَ الجمعةِ فهيَ أولُ جمعةِ كانتْ في الإسلامِ. وأما أولُ جمعةً جَمَّعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهُو أنَّه لما قدمَ المدينةَ مُهَاجِرًا نزلَ قُبَاءَ على بني عمرو بنِ عوفٍ وأقامَ بها يومَ الإثنينِ والثَّلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وأسَّس مسجدَهُم ثم خرجَ يومَ الجمعةِ عامدًا المدينةَ فأدركتْهُ صلاةُ الجمعةِ في بني سالمِ بنِ عوفٍ في بطنِ وادٍ لهم فخطبَ وصلَّى الجمعةَ {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} أيْ امشُوا واقْصِدُوا إلى الخطبةِ والصلاةِ {وَذَرُواْ البيع} واتركُوا المعاملةَ {ذلكم} أي السعيُ إلى ذكرِ الله وتركُ البيعِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} منْ مباشرتِهِ فإنَّ نفعَ الآخرةِ أجلُّ وأبقَى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أيْ الخيرَ والشرَّ الحقيقينِ أوْ إِنْ كنتم أهلَ العلمِ.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي أُدِّيتْ وفُرغَ منهَا {فانتشروا في الأرض} لإقامةِ مصالِحِكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي الربحَ فالأمرُ للإطلاقِ بعدَ الحظرِ وعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا لَمْ يؤمُروا بطلبِ شيءٍ من الدُّنيا إنَّما هو عيادةُ المرضَى وحضورُ الجنائزِ وزيارةُ أخٍ في الله وعنِ الحسنِ وسعيدِ بنِ المسيِّبِ طلبُ العلمِ وقيلَ صلاةُ التطوعِ {واذكروا الله كَثِيرًا} ذِكرًا كثيرًا أو زمانًا كثيرًا ولا تخصوا ذكرَهُ تعالَى بالصلاةِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزُوا بخيرِ الدارينِ.
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} رُوي أنَّ أهلَ المدينةِ أصابَهُم جوعٌ وغلاءٌ شديدٌ فقدمَ دِحْيةُ بنُ خَلِيفةَ بتجارةٍ منْ زَيْتِ الشامِ والنبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلام يخطبُ يومَ الجمعةِ فقامُوا إليهِ خشيةَ أنْ يُسْبقُوا إليهِ فما بقيَ معَهُ عليهِ الصلاةُ والسلام إلا ثمانيةٌ وقيلَ أحدَ عشرَ وقيلَ اثنا عشرَ وقيلَ أربعونُ فقال عليهِ الصلاةُ والسلام: «والَّذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لَوْ خرجُوا جميعًا لأضرمَ الله عليهِم الواديَ نارًا» وكانُوا إذَا أقبلتْ العيرُ استقبلُوها بالطبلِ والتصفيقِ وهُو المرادُ باللهوِ وتخصيصُ التجارةِ برجعِ الضميرِ لأنَّها المقصودةُ أوْ لأنَّ الانفضاضَ للتجارةِ معَ الحاجةِ إليهَا والانتفاعِ بهَا إذا كانَ مذمومًا فمَا ظنُّكَ بالانفضاضِ بالكُلِّيةِ إلَى اللَّهوِ وهُو مذمومٌ في نفسهِ، وقيلَ تقديرُهُ إذَا رأَوا تجارةً انفضُّوا إليهِ فحذفَ الثانيَ لدلالةِ الأولِ عليهِ وقرئ إليهِمَا {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أيْ عَلى المنبرِ {قُلْ مَا عِندَ الله} منَ الثوابِ {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإنَّ ذلكَ نفعٌ محققٌ مخلَّدٌ بخلافِ ما فيهِمَا منَ النَّفعِ المتوهَّمِ {والله خَيْرُ الرزقين} فإليهِ اسعَوا ومنْهُ اطلبُوا الرزقَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} أي فعل النداء لها أي الأذان، والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنًا آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه.
وفي حديث الجماعة إلا مسلمًا فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري.
ومسلم زاد النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولًا ثانيًا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثًا لأن الإقامة تسمى أذانًا كما في الحديث: «بين كل أذانين صلاة» وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي: المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي: {فاسعوا} هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال: المراد الأول في الأصح، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخمينًا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك. وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر.
والحسن في قوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ} إلخ قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي.
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه: ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى: {تَعْمَلُونَ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل: العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو وهو ضعيف لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر {مِن يَوْمِ الجمعة} أي فيه كما في قوله تعالى: {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضًا كون {مِنْ} للتبعيض، وفي (الكشاف) هي بيان لإذا وتفسير له، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط {مِنْ} البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا؛ وقيل: أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض وهو كما ترى.
و {الجمعة} بضم الميم وهو الأفصح، والأكثر الشائع، وبه قرأ الجمهور، وقرأ ابن الزبير، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي، والأعمش بسكونها، وروي عن أبي عمرو وهو لغة تميم وجاء فتحها ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضًا، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان.
ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم: ضحكة للضحوك منه، وأما الجمعة: بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، وقال أبو البقاء: الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع.
وقيل: في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى، وقد صار يوم الجمعة علمًا على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علمًا له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد، وكانت العرب على ما قال غير واحد تسمى يوم الجمعة عروبة، قيل: وهو علم جنس يستعمل بأن وبدونها؛ وقيل: أل لازمة، قال الخفاجي: والأول أصح.
وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي يقال: يوم عروبة.
ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال: عروبة منكرًا ومعرفًا هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال: قال السهيلي: ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ.
وأول من سماه جمعة قيل: كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق.
وعبد بن حميد.
وابن المنذر عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام.
وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود.
ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك بعد {تَعْمَلُونَ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} الآية، وكون أسعد هذا أول من جمع مروى عن غير ابن سيرين أيضًا، أخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان.
والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلًا، وظاهر قول ابن سيرين: فأنزل الله تعالى في ذلك بعد {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} إلخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، وفي (فتح القدير) التصريح بذلك، وقال العلامة ابن حجر في (تحفة المحتاج): فرضت يعني صلاة الجمعة بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفيًا، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولًا بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافًا بها أو جحودًا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه» فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه: «لا حج له» أن الحج كان مفروضًا إذا ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل: فرض قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها، وقيل: ثانيها، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا: إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال: إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب ابن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلًا.
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فأجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال: فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام.
ومصعبًا أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعبًا أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة، وقولهم: في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع بين الحديثين بأن أسعد كان أميرًا، ومصعبًا كان إمامًا وهو كما ترى، ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكأن في خبر ابن سيرين رمزًا إليها بقوله: وذكرهم، وقد يقال: إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل: إن فلانًا أول من صلى الجمعة كان متضمنًا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفيًا لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها؟ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام؟ا وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاءوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدًا فتدبر والله تعالى الموفق.
وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قبًا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة وهو أول جمعة صلاها عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور.
وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت: «يا نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام» الخبر، ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعًا وهو من أفضل الأيام، وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد.
وابن ماجه عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعًا «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى» وفيه «أن فيه خلق آدم. وإهباطه إلى الأرض. وموته. وساعة الإجابة أي للدعاء ما لم يكن سؤال حرام. وقيام الساعة».
وفي خبر الطبراني «وفيه دخل الجنة. وفيه خرج».
وصحح ابن حبان خبر «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة» وفي خبر مسلم «فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس» وصح خبر «وفيه تيب عليه وفيه مات».
وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل: ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه، فعن أبي بردة: هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها، وعن الحسن: هي عند زوال الشمس، وعن الشعبي: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وعن عائشة: هي حين ينادي المنادي بالصلاة.
وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير بن عبد الله المزني: «هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها».
وعن أبي أمامة لأني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن. أو جلس الإمام على المنبر. أو عند الإقامة.
وعن طاوس ومجاهد: هي بعد العصر، وقيل: غير ذلك، ولم يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الاسم الأعظم وليلة القدر وغيرهما لحكمة لا تخفى.
{فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي، وجعل ذلك من خصائص الجمعة، فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة وهو على ما قيل مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له، وقيل: الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة، واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقًا ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكرًا طويلًا يسمى خطبة أو ذكرًا لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجبًا أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزئ غيره إذ لا يكون بيانًا لعدم الإجمال في لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين: ولهما أركان عندهم، واستدلوا على ذلك بالآثار، وأيًا مّا كان فالأمر بالسعي للوجوب.
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط وهو المقصود لغيره فرع افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع؟ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل: كفاية وهو شاذ.
وفي حديث رواه أبو داود وقال النووي: على شرط الشيخين «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك، أو امرأة أو صبي أو مريض».
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول القاشاني: تصح بواحد لا يعتد به كما في (شرح المهذب) لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال: أحدها: أنه اثنان أحدهما الإمام وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود.
الثاني: ثلاثة أحدهم الإمام وحكي عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم.
الثالث: أربعة أحدهم الإمام وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره، وحكاه في شرح المهذب عن محمد، وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم.
الرابع: سبعة حكي عن عكرمة.
الخامس: تسعة حكي عن ربيعة.
السادس: اثني عشر في رواية عن ربيعة وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي.
السابع: ثلاثة عشر أحدهم الإمام حكي عن إسحاق بن راهويه.
الثامن: عشرون رواه ابن حبيب عن مالك.
التاسع: ثلاثون في رواية عن مالك.
العاشر: أربعون أحدهم الإمام وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز.
الحادي عشر: خمسون في الرواية الأخرى عنه.
الثاني عشر: ثمانون حكاه المازري.
الثالث عشر: جمع كثير بغير قيد وهو مذهب مالك فقد اشتهر أنه قال: لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد رجحه المزني وهو من كبار الآخذين عن الشافعي وهو اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها.
ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال.
وقرأ كثير من الصحابة، والتابعين {فامضوا} وحملت على التفسير بناءًا على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنًا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه {وَذَرُواْ البيع} أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابًا أيضًا.
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في شرح المنار: إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الاسبيجابي أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة، وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة.
وقال ابن العربي: هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله: مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة وروي عن الزهري، وقال به جمع وأما أول وقت الزوال وروي ذلك عن عطاء والضحاك والحسن والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضًا، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي.
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك {ذلكم} أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجل وأبقى، وقيل: أنفع من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللام.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي أديت وفرغ منها {فانتشروا في الأرض} لإقامة مصالحكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي الربح على ما قيل.
وقال مكحول والحسن وابن المسيب: المأمور بابتغائه هو العلم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعًا، والأمر للإباحة على الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك، ومجاهد.
وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب، وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} إلخ.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فأخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيرًا} أي ذكرًا كثيرًا ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقًا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة؟ وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعًا، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضًا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن، واستدل بقوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ} [الجمعة: 9] إلخ من قال: إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر، وأبو هريرة، ويونس، والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري، وابن المنكدر، وقال مالك، والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء؛ وعن ابن عمر، وابن المسيب، والزهري، وأحمد وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشيًا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقًا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة.
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن جابر بن عبد الله قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائمًا إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلًا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة} إلى آخر السورة، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلًا وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارًا» وفي رواية عن قتادة «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب الوادي عليكم نارًا» وقيل: لم يبق إلا أحد عشر رجلًا، وهم على ما قال أبو بكر: غالب بن عطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضًا منهم وعدوا بلالا وجابرًا لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابرًا وذكر بلالًا وابن مسعود ومنهم من ذكر عمارًا بدل ابن مسعود، وقيل: لم يبق إلا ثمانية، وقيل: بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى تحمل طعامًا، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر.
وأخرج أبو داود في مرسيله عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ} إلخ فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مقدمًا خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحدًا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا: إن {إِذَا} فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله:
وندمان تزيد الكاس طيبا ** سقيت ذا تغورت النجوم

ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذمومًا فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ا وقيل: الضمير للرؤية المفهومة من {رَأَوْاْ} وهو خلاف الظاهر المتبادر، وقيل: في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن {أَوْ} في {أَوْ لَهْوًا} مثلها في قوله:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أو أنت في العين أملح

فقال الجوهري: يريد بل أنت فالضمير في {إِلَيْهَا} راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهوًا، وتعدّ فضلًا إن لم تشغله كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] انتهى وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي عبلة {إليه} بضمير اللهو، وقرئ {إليهما} بضمير الاثنين كما في قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل به في الآية التي ذكرناها {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أي على المنبر.
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه.
وأخرج ابن ماجه وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ فقال: أما تقرأ {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}؟ وكذا سئل ابن سيرين.
وأبو عبيدة، وأجابا بذلك، وأول من خطب جالسًا معاوية.
ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم، ونفع التجارة ليس بمخلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم، وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الروية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب مما ذكرنا.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرًا وكرر الجار لإرادة الاطلاق في كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادت يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاططياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصًا من ربقة الرق، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك {والله خَيْرُ الرزقين} فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق.
واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في حماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءًا على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك وإن كان دالًا على صحتها باثني عشر رجلًا بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلًا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه معي فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداءًا فلابد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلابد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها.
وقال جمهور الشافعي: إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرًا لنحو ما قال زفر، وفي قول: لا يضر إن بقي إثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله.
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لاسيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارًا منهم، وفيه إن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارًا إن أريد بها رواية البيهفي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأني بذلك؟ا وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.
هذا ومن باب الإشارة: على ما قيل في الآيات: {هُوَ الذي بَعَثَ في الأميين رَسُولًا مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} [الجمعة: 2] إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن يكون أميًا كالشيخ معروف الكرخي على ما قال ابن الجوزي وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام: قد يكون الإنسان عالمًا بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لادراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعًا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدلا إلا فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغرى إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على ذلك، وخبر (لا يتخذ الله وليًا جاهلًا ولو اتخذه لعلمه) ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا.
وذكر بعضهم أن قوله تعالى: {وَيُزَكّيهِمْ} بعد قوله سبحانه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلًا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلًا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين: التوجه والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضًا لا أدعى الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو يقال: يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله تعالى: {وَءاخَرِينَ} [الجمعة: 3] إلخ بناءًا على عطفه على الضمير المنصوب قيل: إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلى الله عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة؛ وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضًا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء: وفي قوله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} [الجمعة: 5] إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى: {قُلْ يا أهل أَيُّهَا الذين هَادُواْ} [الجمعة: 6] الآية إشارة إلى جواز امتحان مدعى الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات، (ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم). اهـ.